بيروت - 16/03/2013
أقامت "الحركة الثقافية-أنطلياس" ندوة تكريمية بمناسبة مرور " ١٥٠ عامًا على نشاط عائلة "صادر" في حمل رسالة النّشر والطّباعة"، لما اضطلعت به هذه الدّار العريقة من دور ثقافيّ رياديّ في لبنان والعالم العربي، شارك فيها الرئيس الدكتور غالب غانم، والمحامي ريمون عازار، والرئيس طارق زيادة، والدكتور ميشال جحا، والنقيب عصام كرم، والعميد أنيس مسلّم، وأدارها الأستاذ جورج أبي صالح.
رحّب الأستاذ جورج أبي صالح بالمشاركين في التّكريم قائلاً إنّهم من "أبرز الوجوه النيّرة التي ترتاد" مقرّ "الحركة القافية-أنطلياس" والتي "تعتلي منبرها بلباقة ولياقة وبراعة وفصاحة آسرة"، وموجّهًا التّحيّة إلى ابراهيم صادر، مؤسّس "المكتبة العموميّة" في العام ١٨٦۳، وأوّل من عُني في بيروت بمهنة الكتبيّين، بحسب الأب العلاّمة لويس شيخو اليسوعي، وإلى أبناء ذرّيّته الذين حافظوا على العهد لأربعة أجيال متعاقبة واعتنوا بمكتبة الوالد ومطبعتها، وحوّلوا المكتبة إلى " صادر" التي نشرت أهم عناوين التراث الأدبي اللبناني والعربي وأعمال كبار مؤلّفي لبنان ودنيا الإغتراب، فضلاً عن ترجمات روائع الأدب الأجنبي.
الرئيس الدكتور غالب غانم وصف " صادر" بالسّنديانة الابراهيمية الصّادريّة ورأى أنّ لعائلة صادر فضلاً ينهمر "انهمارًا على عالم الكلمة"، ذلك أنّها تشكّل محطة من "محطّات المسيرة الطّباعيّة التي حفظت للكتاب شأنه وكرامته"، ولا سيّما أنّ أنّ الحرف كان السّبّاق في نشر حضارة هذا الشّرق في أرجاء المعمورة كافّة، وأنّ النّهضة في لبنان والعالم العربيّ إنّما مدينةٌ بالكثير الكثير للمطبعة وللمكتبة وللكتاب. ونوّه أخيرًا بالدور الثقافيّ البالغ الأهمية الذي أدّاه آل صادر، وبحدائقهم الفيحاء في عالم النّشر.
وأشاد المحامي ريمون عازار بدور المطبعة الأولى في الشّرق التي تأسّست في وادي قنّوبين في العام ١٦١٠ وارتفعت كالمنارة لتنطلق من خلالها النهضة العربية، فكان ابراهيم صادر في طليعة من أنشأوا مكاتب ودور نشر حديثة في لبنان توارثها أولاده وأحفاده وما زالت تشعّ في يوبيلها المئة والخمسين وتفيض "بأُمّهات الكتب والمؤلفات الفكرية والعلمية والأدبية والشعرية والقانونية". وأنشد الشاعر عازار قصيدة صغيرة أشاد فيها بمآثر هذه الدار وأهلها.
الرئيس طارق زيادة اعتبر أنّ "دار صادر" ركنٌ من أركان النهضة الحقوقية والثقافية والأدبية في لبنان والعالم العربي بشعلتها المتّقدة منذ مئة وخمسين عامًا ابتداءً من المؤسّس ابراهيم صادر وابنه الأوّل القاضي يوسف الذي أنشأ المكتبة العلمية التي انتقلت إلى ابنه وحملت منذ ذلك الحين اسم "دار صادر". وبعد أن نشرت هذه الدار العريقة مؤلّفات الأديب الكبير أمين الريحاني، ظهرت المجلّة القضائية في العام ١٩۲١، والتي ظلّت مرجعًا فذًّا لرجال القانون، ثمّ مجموعة صادر القانونيّة التي ظلّت أداة عمل المحامين والقضاة فترةً طويلة. وتحدّث الرئيس زيادة عن وجهَين نقابيَّين في عائلة صادر، مثل أديب صادر الذي أسّس اتّحاد النّاشرين، وجوزيف صادر، ابنه، الذي ترأس نقابة الطباعة.
تحدّث الدكتور ميشال جحا عن دور المطبعة في إيصال الكتاب إلى القرّاء بيُسرٍ بعد أن كان انتشاره يعتمد على النّسخ. لذلك، يرتبط الكتاب بالمطبعة ارتباطًا وثيقًا، وبالتالي، تضطلع عائلة فاضل منذ قرن ونصف قرن بمهمّة نشر الكتاب. وبدأت هذه الدّار مسيرتها بنشر التراث الأدبي اللبناني وبخاصة التراث الاغترابي، لتنفتح بعدئذ على العالم العربي والإسلامي. ثمّ ذكر الدكتور جحا أبرز منشورات "دار صادر" مثل "مجموعة الرابطة القلمية" بالاشتراك مع "دار بيروت"، مستشهدًا بما قاله الأديب الكبير ميخائيل نعيمة في هذا الإطار: "(إنّ أنطون صادر والمرحوم والده) دفعا الأدب والأدباء في لبنان إلى مرتبة عالية جدًّا".
النّقيب عصام كرم عرّف الكتاب بأنّه يتألّف من مكوّنات ثلاثة هي الكاتب والناشر والقارئ، مشيرًا إلى أنّ أنطون صادر كان يعيش كلّ هذا بأمانة، مقدّمًا نبذة عن تاريخ "دار صادر" الذي شكّل نقطة التقاء للأدباء إذ أقام أنطون صادر العلاقات الوثيقة وأنشأ الصّداقات الأنيقة "بخلق هادئ وصدق ودود وأمانة مثلى"، وانفتح على نشر الآثار والتراث والكتاب العربي، مثل "لسان العرب"، وأراد أن يشدّ أواصر العلاقة بين لبنان والانتشار اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، لقّبه النّقيب كرم بالراهب "في دير الكتاب وفي إيوان الكتاب"، إذ نذر حياته للكتاب ووفى نذوره كلّها.
ذهب العميد أنيس مسلّم في رحلة إلى الخطوات الأولى لآل صادر في عالم الطباعة والنشر بدءًا من "المكتبة العمومية" في سوق أبي النّصر البيروتيّ التي أصبحت "مكتبة صادر" في أوّل شارع اللِّنبي، ثمّ تحوُّلُها إلى "المكتبة العلمية"، وأخيرًا إلى "دار صادر" "الأصيلة في لبنانيّتها" وموقع "قوانين لبنان بالإنغليزية" على الإنترنت. فقد رافق آل صادر التكنولوجيا محافظين على تألّق الكتاب ووهجه وكرامته. وذكر العميد مسلّم أنّ ما يميّز "دار صادر" هو منهجيّتها الصّارمة والواضحة المعالم، ورهان مؤسّسيها منذ انطلاقها على النّوعيّة كأساسٍ للنّجاح وخدمة الثّقافة، ما جعلها في مصافّ دور النّشر الفذّة في العالم.
وكانت في النّهاية كلمتان لعائلة صادر تقدّم بهما الأستاذان نبيل صادر وجوزيف صادر شكرا فيهما "الحركة الثقافية-أنطلياس"، مقرونتين بباقة حبّ. وأكّدا من خلالهما على الثوابت الموروثة عن الآباء والأجداد الأفاضل، وفي طليعتها الالتزام بالعمل وبآداب المهنة وبالصدق في المعاملة وبروح الانفتاح على الآخرين والتقدُّم في رسالة الطباعة والنشر باستمرار.
وتميزت الندوة بكثافة الحاضرين المهتمين.
كلمة الاستاذ جورج أبي صالح
ابتدأت القصّة مع أحد الروّاد... مع ابراهيم صادر المؤسّس ، ابن الخامسة والعشرين القادم من مسقط رأسه درب السيم الى بيروت حيث أنشأ عام١٨٦۳" المكتبة العموميّة " وحيث تزوّج من ليا فرنسيس ثابت التي أنجب منها سليم ويوسف. وبعد ثلاثين سنة ، أي في العام ١٨٩۳، سلّم المؤّسس إدارة المكتبة لإبنه سليم بعدما كان قد نقل إدارة مطبعة المكتبة الى ابنه الثاني يوسف عام ١٨٩٠.
وعن هذا المؤسّس، جاء في كتاب " تاريخ الآداب العربية " لمؤلّفه الأب العلاّمة لويس شيخو اليسوعي ما حرفيّته : " في ٩ أيار ١٩١٥ ( أي في عزّ الحرب العالمية الأولى)، توفّي في بيروت أول من عُني فيها بمهنة الكُتبيّين ، ابراهيم صادر ، الذي باشر هذه التجارة فخدمها نيّفاً وخمسين سنة وقرّب الى الأهل عموماً والى الناشئة خصوصاً درس المطبوعات العربية ومطالعة التآليف النادرة، وقام بعده ولداه الأديبان سليم ويوسف من خرّيجي مدرستنا الكلّية (مدرسة الآباء اليسوعيّين)".
والقصّة مستمرّة... فسليم ظلّ يتولّى شؤون مكتبة أبيه طوال ما يزيد عن نصف قرن من الزمن كما أصدر مع أخيه روزنامة المكتبة العمومية لعشرات الأعوام ابتداء من سنة ١٩٠٥. ثم أصدر مجلة "الأنيس" عامي ١٩١٠ و١٩١١ قبل أن يترك الأمانة لإبنه الوحيد انطون ويرحل عن هذا العالم عام ١٩٤١ في زمن الحرب العالمية الثانية. ومع أنطون، تحوّلت المكتبة الى" دار صادر" التي اتّخذت لها لاحقاً مقرّاً جديداً في مزرعة يشوع حيث تابعت نشر أهم عناوين التراث الأدبي اللبناني والعربي وأعمال كبار مؤلّفي لبنان ودنيا الإغتراب الى جانب ترجمات لروائع من الأدب الأجنبي.
في المقابل، كان أديب إبنُ يوسف، وأحدُ رموز الجيل الثالث مع ابن عمّه أنطون، يتابع رسالة والده بكلّ همّة واندفاع ، موسّعاً نشاط مطبعته ومركــّزاً عمله بصورة خاصة على إصدار " الجريدة الرسميّة " في بادرة رياديّة ممهّداً بذلك الطريق الى ابنه جوزف لمزيد من التوسّع في المؤسّسة المنتقلة الى مقرّها الجديد في منطقة الدكوانة ولمزيد من التعمّق والتخصّص في النشر الحقوقي اللبناني.
والقصّة مستمرّة... روّاد الجيل الرابع أبناء أنطون الثلاثة ، سليم والمهندسان ابراهيم ونبيل، والنقيب جوزف ابن أديب مع ولديه مهندس المعلوماتيّة أديب والمحامي راني يواصلون ، كلّ من موقعه، متابعة الرسالة... التي كانت أهمُّ عناوينها :
١ - المأسسة عبر الانتقال من الحرفيّة الطليعية الموروثة من الآباء والأجداد الى صناعة الطباعة والنشر الحديثة، مع ما يتطلّبه ذلك من استثمار ضخم في الموارد البشرية والمالية والمادية ، وفي تأمين وتدريب الكفايات المهنية وفي توفير الأبنية والآلات والمعدّات اللازمة.
٢- تطوير أداء هذه المؤسسات وترشيد إداراتها لمواكبة تطور العصر واكتساب المزيد من القدرة التنافسية في سوق محلّية ضيّقة ومفتقرة الى القوننة والرقابة وحسن التنظيم وفي سوق إقليمية غير مستقرّة وفي عالم يجتاحه تطور متسارع للتكنولوجيا منطوٍ على تحدّيات جمّة ومتنوّعة.
۳- ترسيخ الموقع والمكانة في السوق وفي القطاع، ولاسيّما عبر الثبات في التخصّص والحفاظ على الجودة والجِدّة في الإنتاج. وهكذا، باتت منشورات صادر التراثية لمؤلّفين لبنانيّين وعرب، مقيمين ومغتربين، حاضرة ومطلوبة في كلّ أرجاء العالم العربي ومعارض الكتب العربية، بلا استثناء، في حللها الإخراجية المتميّزة وعناوينها اللافتة ، فيما غدت "المنشورات الحقوقية- صادر ناشرون" مرجعاً شبه أحادي على رفوف مكتبات المحامين والقضاة والقانونيّين اللبنانيّين والكليّات الجامعية والإدارات الرسميّة ، قبل أن تنطلق في اتّجاه دول الخليج العربي، حيث تلعب اليوم دوراً أساسيّاً في مواكبة وتحفيز انتشار القانون الوضعي في العالم الإسلامي.
٤- تعزيز السمعة الطيّبة ، وهو شرط أخلاقي أوّلي وضروري للنجاح في عالم الإعمال. فآل صادر جميعاً ، من الآباء االى الأبناء فالأحفاد، سواء في صادر بإدارة أبناء أنطون أم في المنشورات الحقوقية بإدارة النقيب جوزف وأحفاد أديب، لهم رصيد كبير من الإحترام والتقدير في المجتمعَين اللبناني والعربي، راكموه على مرّ السنين عبر الصدق في التعامل مع الناس ودماثة الخُلق وطيب المعشر والإندفاع في الخدمة ، وعبر النضال النقابي الجادّ والتطوعي في خدمة الشأن الوطني العام والقضايا القطاعية لكلّ من مختار بيروت المهندس نبيل في نقابة الناشرين اللبنانيّين واتحاد الناشرين العرب ، والنقيب جوزف في نقابة الناشرين اللبنانيّين والناشرين المدرسيّين ونقابة الطباعة واتحاد الناشرين العرب، وفي نشاطه الدؤوب للحفاظ على حقوق الملكية الفكرية ورفع مستوى قطاعَي الطباعة والنشر.
أجل ، أيّها السيدات والسادة، القصّة مستمرّة ...
إنها قصّة صمود ومثابرة أربعة أجيال متعاقبة - وخامسها على الطريق إن شاء الله- من أسرة آل صادر الكريمة ونجاحِها الباهر في صون إرثٍ نفيس وإغنائه ، وفي جبه التحدّيات ومراكمة الإنجازات على مدى قرن ونصف قرن.
هذه القصّة هي التي دفعت الحركة الثقافية – انطلياس ، صديقةَ آل صادر الكرام، رفاقِ دربها الثقافي ومشوارها التنويري منذ بداياته الأولى قبل ثلاثة عقود ونيّف، الى تكريم هاتين المؤسّستين البارزتين في عالم الطباعة والنشر، في لفتة مودّة وعلامة محبّة وبادرة تقدير حيال مستحقّين.
ففي هذه الندوة، توجّه حركتنا تحيّة إجلال واعتبار لأرواح الراحلين المؤسّسين الأوائل ابراهيم وولديه سليم ويوسف، ولروح كلّ من انطون وأديب المناضلَيْن المثابرين اللذين يصحّ فيهما القــول " مَن خلّف ما مات "...
وتحيّة محبّة وتقدير الى رجال النهضة التحديثية في هاتين المؤسّستين ، النقيب جوزف وولديه الأستاذين أديب وراني، والأخوة الأساتذة سليم وابراهيم ونبيل. فكلّ منكم أيّها الأعزّاء من معدن " صاحب الوزنات العشر". رحم الله أجدادكم والآباء ، وأطال الله بأعماركم (وعمر الراهب الأنطوني العلاّمة الأب الدكتور يوحنا الحبيب صادر ليبقى غزير الإنتاج والتأليف)، وبوركت ثمار جهدكم وجهادكم واجتهادكم، ووفّقكم الله في مسار تطوير أعمالكم لتستمرّوا في خدمة الكتاب والكُتّاب وقرّاء الكتب..... وشكراً لكم.
أيّها السيّدات والسادة، سوف يروي لنا بإيجاز بعضَ فصول قصّة آل صادر ستة أعلام من أصدقاء الحركة والأسرة المحتفى بها ، كانت لهم ولا تزال تجارب وعلاقات تعاون وصداقة مع إحدى المؤسستين أو العائلتين أو كليهما ، وقد تكرّم السادة المنتدون بقبول الدعوة الى إعطاء شهادات شخصيّة في هذه المناسبة، علّ مداخلاتهم تسهم في إلقاء المزيد من الضوء على أهميّة هذا الحدث وعل محطّات منيرة من ذاكرة لبنان الثقافية....
فالرئيس الأول الدكتور غالب غانم ، والقاضي الرئيس الدكتور طارق زيادة ، والنقيب عصام كرم، والعميد الأديب الدكتور أنيس مسلّم، والباحث الأديب الدكتور ميشال جحا والمحامي الشاعر الأستاذ ريمون عازار.... ستّةٌ من كبار قامات العلم والأدب والخلق، لكلّ منهم في مجال اختصاصه ونشاطه مكانة مرموقة ومساهمات محمودة ، وفي قلوب عارفيهم وقارئيهم وسامعيهم القدرُ الكبير من الإحترام والتقدير...
أيّها السادة المنتدون،
كلّكم في هذا المقام كما في عالم الثقافة غنيٌّ عن التعريف،
والحركة الثقافية – انطلياس تخجل أن تقول بأنها ترحّب بكم ، فأنتم هنا في داركم ، من أبرز الوجوه النيّرة التي ترتاد مقرّ حركتنا بانتظام، والتي تعتلي منبرها بلباقة ولياقة وبراعة وفصاحة آسرة. سوف نستمع باهتمام بالغ الى شهاداتكم في هذه الندوة - التحيّة الى آل صادر بمناسبة ١٥٠ عاماً في رسالة النشر والطباعة. والبداية مع الرئيس الأول د. غالب غانم.
المحامي ريمون عازار كلمة
في البدء كانت الأبجدية ، والأبجدية كانت عند جبيل . هكذا تقول الحضارة .
وأبت الأمم إلاّ أن تعمّد جبيل باسم الكتاب ، فدعيت بيبلوس .
وانطلقت المعجزة الكبرى، التي لن تدانيها معجزة على مدى الدهر . فالأحرف التي تقل عن الثلاثين حرفا"، في معظم لغات العالم ، باتت تختزن ما تبدعه البشرية من علم وفكر وفلسفة وأدب وشعر ، ولن تفيض او تتفجّر حتى آخر الأزمنة ، فكأنّها ، بعد الله ، منها وفيها كان ويكون كل شيء .
وحملت جبيل وصور وصيدون رسالة الحرف، والأنفتاح ، وتبادل الأفكار والسلع ، على أشرعة السفن ، وبأيدي "القدامسة " الى شتى أصقاع العالم ، لتعلّم الأغريق ، وتؤسس المدن ، وتبني ، كما يقول سعيد عقل : " أنّى نشأ لبنانا " .
شغل السلام الفينيقي ، المبنيّ على الأبجدية والتعارف والتبادل ، الناس ، وملأ الدنيا،وتغنّى بمدننا الأنبياء ، وملأوا العهد القديم بأروع الأناشيد عنها .
جاء في سفر حزقيال عن صور ، في معرض استنزال غضب الله عليها ، حسدا" منها قوله :
يا صور ، إنّك قلت :
أنا كاملة الجمال
حدودك في قلب البحار
وبانوك أكملوا جمالك . . .
من كان شبيها" بصور
في وسط البحر ؟
بأنزال سلعك من البحار
أشبعت شعوبا" كثيرة
وبوفرة أموالك وبضائعك
أغنيت ملوك الأرض.
وجاء عن ملك صور :
لأن قلبك قد تشامخ
فقلت : إني إله
وعلى عرش إله جلست في قلب البحار
وأنت بشر لا اله
ولكن جعلت قلبك كقلب إله . . .
هكذا قال السيد الرب :
انت خاتم الكمال
ممتلىء حكمة وكامل جمالا"
كنت في عدن ، جنة الله ،
وكان كل حجر كريم كساء لك . . .
أقمتك في جبل الله المقدس
وتمشيت في وسط حجارة النار . . .
وتدور العصور ، وتتوالى النكبات ، وتدّك مدننا لتقوم من جديد ، كطائر الفينيق من تحت الرماد ، وتعود بيروت في العصر الروماني ، أمّ الشرائع ، ومدرسة الحقوق ، ومدينة الفقهاء ، ومركز التشريع والأشعاع القانوني الأبهى في العالم .
ويعمّ الظلام القرون الوسطى ، وتهدم دور العلم والمكتبات ، ويغرق الشرق في ثبات عميق، ولا يستفيق منه إلا على أقلام العباقرة ، من علماء المدرسة المارونية في روما ، التي أنشئت في سنة ١٥٨٤. إرتفعوا كالأرز في لبنان ، وكالمنارات في الليالي الداكنة ، شرقا" وغربا" ، وأسسوا سنة ١٦١٠ ، في وادي قنوبين المقدس ، أوّل مطبعة في الشرق، وبزغ الفجر من جديد. وبفضلهم صار العالم يقول بأعجاب : " عالم كماروني " . وهبّ العرب من غفلتهم على صوت الشاعر اللبناني :
“ألا هبوا واستفيقوا ايها العرب “
وانطلقت النهضة العربية الكبرى بخطوات ثابتة ، من لبنان ، وتوافدت اليه الأرساليات ، وانتشرت المدارس والجامعات ، وكانت المطابع والمكتبات حصان طروادة، في حسم معركة اليقظة العربية.
كان المغفور له ، ابراهيم صادر مؤسس صادر للنشر ، الرائد الفذّ ، الذي أحرز قصب السباق ، في طليعة من أنشأوا مكاتب ودور نشر حديثة في لبنان . داره التي توارثها أولاده واحفاده، كابر عن كابر . ونراها اليوم ، تشعّ في يوبيلها المئة والخمسين ، وكأنّها في مقتبل العمر ، وتفيض بالنفائس الغوالي من أمّهات الكتب والمؤلفات الفكرية والعلمية والأدبية والشعرية والقانونية، قديمها وحديثها ، ولن يكون لفيضها انقضاء .
لن استفيض في وصف الدور الثقافي الريادي الذي قامت به صادر ، وتأثيرها الكبير في مسار النهوض والحداثة ، بل اكتفي مستشهدا" بما قاله عظيم من لبنان ، الأديب الخالد ميخائيل نعيمه:
“وإني لأشهد بأن لانطوان صادر وللمرحوم والده اياد بيضاء على الحركة الأدبية في لبنان. كرّسا حياتهما لخدمة الأدب والأدباء . . .
وإني لأستنزل الرحمة على الوالد والولد لما لهما من فضل على الأدب العربي في لبنان وفي سائر البلاد العربية .
وإني لو جئت أعدد ما لأنطوان ووالده من الفضل على الحركة الأدبية في لبنان لما انتهيت ، وحسبي القول بأنهما دفعا الأدب والأدباء في لبنان الى مرتبة عالية جدا" :
لن اختم كلمتي ، قبل ان أوجه الى صادر المتألقة، هذه الأبيات ، التي حاولت فيها أن أختزل معالم النهضة، ودور الدار فيها ، تحية لها في يوبيلها المئة والخمسين :
من عندنا النور ، والأقلام ، والكتب
وينهض الشرق والظلمات تنقلب
ويعلن الحرف من بيروت عاصمة
كأن جبيل جلت عن سفرها النوب
ويبتني صادر في السبق مطبعة
ألكتب منها جياد عنقها الذهب
قرن ونصف ويختال الصبا عجبا"
فالسحر يخلب ، والأنظار تنجذب
واليوم، في عيدها، الأفواه هاتفة:
لصادر ، مجد النشر ينتسب .
كلمة عائلة صادر
يلقيها نبيل انطون صادر
أيّها السيّدات والسّادة،
في هذه المناسبة السعيدة على قلوبنا ، وفي هذا الصرح الثقافي والديني الكبير ، لا يسعني إلاّ أن أتوجّه بسلسلة تحيّات واجبة :
- تحيّة أولى الى الحركة الثقافية – انطلياس ، بجميع أعضاء هيئتها الإدارية وهيئتها العامة ، وبخاصة رئيسها الأب ريمون هاشم وأمينها العام الصديق الدكتور عصام خليفة ... مع لفتة خاصة إذا سمحتم الى الصديق جورج أبي صالح. فنحن مدينون لكم بالامتنان على هذه المبادرة الكريمة والطيّبة تجاه أسرتنا ومؤسّستينا اللتين تربطهما بالحركة علاقة قديمة جداً زادها الزمن وثاقةً والتعاون أُلفةً.
- وتحيّة ثانية الى كلّ من تكبّد عناء المجيء الى هذه الدار الكريمة لمشاركتنا هذه الوليمة الثقافية التي استحضرنا فيها معاً ذكرى أحبابٍ أعزّاء رحلوا وذكرى منجزات لا يُستهان بها في أزمنة بالغة الصعوبة محلياً وإقليمياً، وفي قطاع ما فتئ يشهد المزيد من التحدّيات وما برحنا نعاند الأقدار في جبهها وتذليل عوائقها، متسلّحين بالإيمان بالله أولاً ومن ثمّ بالثقة بالنفس وقوة العزيمة ومحبّة الناس، كنزِنا الأكبر ورأسمالِنا الأثمن.
- وتحيّة ثالثة الى كلّ فرد من السَّادة المنتدين ، مناراتِ اللغة والعلم والأدب الذين تكرّموا وتواضعوا واستجابوا للدعوة المشتركة من قبلنا ، نحن آل صادر، ومن قبل أصدقائنا في الحركة الثقافية، فأدلوا بشهادات في أُسرتنا ومؤسّستينا نفخر بها ونعتزّ، سيّما وأنها صادرة عن مثل هذه الشخصيّات الكريمة والمرموقة التي سنظلّ مدينين لها بالشكر وعرفان الجميل ما حَيِينا.
أيّها السيّدات والّسادة،
إن هذه الذكرى ، بما تنطوي عليه من معانٍ وعبرٍ، تفرض علينا التأكيد على المبادىء - الثوابت التي أورثنا إيّاها الآباء والأجداد الأفاضل، وفي طليعتها الإلتزام بالجَدِّ والجِدِّ في العمل ، وبآداب المهنة والصدق في المعاملة ، وبروح الإنفتاح على الآخرين وعلى منجزات التطور والحداثة من غير إهمال لمزايا الأصالة. عسى أن يقدّرنا الله على متابعة طريق العطاء وأن يسدّد خُطانا بالنجاح والتقدم لنبقى أوفياء للقيم التي تشربّناها وللرجال الذين نقلوا الشعلة إلينا لنكمل مسارهم بكلّ افتخارٍ واعتزاز.
مبروكٌ الى ابنِ عمّنا النقيب العزيز جوزف وعائلته هذا التكريم ، مع أصدق التمنّيات لهم ولمؤسّستهم الطليعيّة بمواصلة دروب التقدم والإزدهار...
أخيراً ، باسمي الشخصي وباسمي شقيقتي ماري وأخويَّ الحبيبَيْن سليم وابراهيم وباسم ابن عمّنا النقيب جوزف وأولاده أديب وراني ومايا وسائر أفراد أسرتَينا المتواضعتَين، أتقدّم منكم جميعاً بخالص الشكر مقروناً بباقةِ حبّ.